لا ينطبق أي من نماذج الثقافة السياسية كما صنفها عالم السياسة الأمريكي جبريل ألموند على الثقافة السياسية الموريتانية أو قل إن النماذج الثلاثة تتداخل و تتعايش مع بعضها البعض في نفس الوقت و المواطنون أنفسهم في حراك دائم من نموذج إلى أخر حسب الظروف المحفزة لمواقفهم .
أدى اتساع البلد و ترامي أطرافه مع غياب جزئي لشبكة مواصلات متقدمة و تفشي الأمية إلى انتشار نمط الثقافة السياسية المحدودة في المناطق المعزولة حيث لا توجد لدى الفرد معلومات كافية عن النظام السياسي ما يؤدي إلى ضعف العلاقة بينه و بين النسق السياسي ، و في مثل هذا النمط من الثقافة السياسية كل ما يعيه الفرد بصورة غير محددة هو وجود حكومة مركزية دون أن تتأثر حياته اليومية بقراراتها و الأشخاص ذوي الثقافة السياسية المحدودة يميلون إلى الخلط بين النظام و الدولة ، كما أنهم يعجزون عن التمييز بين الحزب الحاكم و هياكل الإدارة المدنية لذلك يسهل استغلالهم من طرف السلطات المحلية في عملية التعبئة لصالح النظام التسلطي و هذا ما حدث بالفعل إبان الحقبة الطائعية السوداء .
من جهة أخرى أدى ارتكاز الولاءات و الانتماءات السياسية على العلاقات العشائرية و القبلية إلى تفشي نمط الثقافة السياسية التابعة ( الرعوية ) حيث يرتبط المواطنون مع ثلة قليلة من السياسيين بعلاقات قائمة على التبعية و الولاء الشخصي و مستندة في جوهرها العميق على صلات القربى و العرف و الدين ، و قد قامت الأنظمة المتتالية باستغلال شبكات الراعي – الرعية من أجل عمليات الضبط و التطويع و أفردت حيزاً كبيراً في المشهد السياسي لأدوار قبلية مما أوجد المحنة الموريتانية الأولى : المجتمع الأهلي ضد المجتمع المدنيغير أن تداعيات التحديث السياسي المتمثل في الدمقرطة و التعددية سرعان ما أفرزت نمطاً ثالثاُ من الثقافة السياسية يسهم في جعل اتجاهات المواطنين إيجابية نحو الموضوعات السياسية و يعزز إيمانهم بالقدرة على المساهمة في العملية السياسية ، إنه نمط الثقافة السياسية المشاركة الذي يعزز البناء الديمقراطي في أي مجتمع من المجتمعات بشرط أن لا يتعدى حدوده المحمودة فإذا نشط جميع الناس سياسيا و بشكل مستمر فإنهم سيسوقون البلد حتما إلى شفير الهاوية .
إذا استثنينا المجتمعات المحلية المعزولة في أقاصي البلد و أولئك الذي لم يشفوا تماما من داء الأمية فإن سكان المدن الكبرى في موريتانيا و هم غالبية ساحقة ينشطون في السياسة بشكل مبالغ فيه ، و بالنظر إلى أن المواطن العادي لا يكسب عادة عيشه من السياسة مما يجعلنا نتوقع أن وقته المخصص لها سيكون محدودا و هو أمر ينطبق على كل الديمقراطيات العتيدة ، فإن ما يمارسه الناس في موريتانيا ليس السياسة بمعناها المتعارف عليه بل هي السياسة وفق تحديد جديد نختصره في الجملة التالية : " المشاركة في الشأن العام بمقتضى المصلحة الشخصية " و يجب أن ننوه هنا إلى أمر جوهري و هو أن هذه القضية لا ترجع فقط إلى غياب الأخلاق المدنية كما أن إرجاعها من قبل أغلب الباحثين إلى العداء التاريخي بين المجتمع و السلطة الاستعمارية هو أمر زائف و مغلوط فما كان الأمر ليختلف في ديمقراطيات عريقة لو أن اللعبة السياسية فيها تأسست على محاصصة قبلية مترافقة مع غياب للمحاسبة القانونية و الشعبية .
و في ظل الفساد المستشري لا يجد السياسيون الموريتانيون ما يمنعهم من ممارسة رياضتهم المفضلة : هدر و نهب المال العام ، و هنا نضع يدنا على المحنة الموريتانية الثانية : النظام ضد الدولة . لا تنبع المشكلة في موريتانيا من تعدد الثقافات السياسية فتصنيفات " جابريل ألموند " وضعت لضرورات تحليلية و من أجل عقد مقارنات عبر قومية بين الثقافات المختلفة و لا وجود لمجتمع واحدي الثقافة السياسية و إن كانت المجتمعات تتفاوت حسب غلبة نموذج معين على بقية النماذج الثقافية الأخرى مثلما تتفاوت في درجة التشوه الذي يصيب ثقافتها السياسية و كنا قد رأينا عيوب الثقافة السياسية المشاركة في موريتانيا و كيف أنها تقف عقبة كأداء في وجه البناء الديمقراطي على الرغم من تعارض ذلك مع نتائج الأبحاث التي تم التوصل إليها في مجتمعات أخرى .
تكمن الأزمة في وجود ثقافات سياسية متعارضة ، فالمواطنون منقسمون بحدة على بعضهم و غالباً ما يدور انقسامهم حول شرعية النظام و ماهية المشاكل الرئيسية و طريقة حلها . و حتى السياسيون الذين تفترض فيهم البراجماتية كثيراً ما يفشلون في تنسيق جهودهم نتيجة شدة التنافر و الاستقطاب بين الأحزاب على الرغم من تقارب برامجها ، و هذا عائد جزئياً إلى النزاعات الشخصية و عداوات الكار "المهنة " التي أوجدت تربة خصبة لإرساء " نظام حزبي متنازع " يتألف من أعداد متزايدة من الأحزاب المتباعدة في مواقفها من القضايا العامة و لا توجد بينها ثقة و متنافرة مع بعضها و مع النظام السياسي ، و هذا ما ولد التراشق الحالي في لعبة ( بونغ بونغ ) بين الحكومة الانتقالية و الأحزاب السياسية ، و على الرغم من أن هذه الأخيرة قد استشعرت خطر الترشيحات المستقلة منذ مدة فإنها لم تحرك ساكناً و تكفينا قراءة سريعة للوائح المترشحة للانتخابات البلدية للتدليل على صدق ذلك ، فمن بين 1264 لائحة لا يوجد أكثر من 25 إتلافاً ( انظر موقع الأخبار ) ،و هي نتيجة تنسجم تماما مع ميل الأحزاب الموريتانية إلى الصراع و التناحر عوض الحوار و المشاركة.
إن تاريخ الأحزاب السياسية في موريتانيا ليس سباقاً على درب المصلحة العامة أو تزاحماً بالأكتاف إلى سدة السلطة بل هو سعي جاد و حثيث للكل من أجل إقصاء الكل و في مسيرة العبث هذه يضعون موريتانيا في مواجهة محنتها الثالثة : المعارضة ضد المعارضة .
يضاف إلى غياب الحوار و المشاركة تجذر مفهوم " الشخصنة " في الثقافة السياسية الموريتانية فالنظام السياسي يعرف بوجوهه البارزة و الأحزاب تضاف إلى أسماء قادتها و في حالة تغير شاغلي الكراسي السياسية و الإدارية يبادر المعينون الجدد إلى الشطب و الإلغاء بدل الاستفادة من تجارب من سبقوهم و المراكمة عليها من أجل إرساء تقاليد مهنية بناءة ، و الواقع أنه يصعب الكلام عن تنمية حقيقية في بلد لا يؤمن مواطنوه بالمنطق المؤسساتي و سيكون من المبكر جدا الحديث عن ثقافة سياسية جديدة تشكل رافعة للتحديث السياسي في ظل تقاعس الهيئات المعنية من أسرة و مدرسة إلى إعلام و أحزاب سياسية عن وضع أسس تنشئة سياسية جديدة تتناسب مع التطورات الجارية على الصعد الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق