الجمعة، فبراير 09، 2007

الثقافة السياسية الموريتانية ومحن الدولة الثلاث

لا ينطبق أي من نماذج الثقافة السياسية كما صنفها عالم السياسة الأمريكي جبريل ألموند على الثقافة السياسية الموريتانية أو قل إن النماذج الثلاثة تتداخل و تتعايش مع بعضها البعض في نفس الوقت و المواطنون أنفسهم في حراك دائم من نموذج إلى أخر حسب الظروف المحفزة لمواقفهم .
أدى اتساع البلد و ترامي أطرافه مع غياب جزئي لشبكة مواصلات متقدمة و تفشي الأمية إلى انتشار نمط الثقافة السياسية المحدودة في المناطق المعزولة حيث لا توجد لدى الفرد معلومات كافية عن النظام السياسي ما يؤدي إلى ضعف العلاقة بينه و بين النسق السياسي ، و في مثل هذا النمط من الثقافة السياسية كل ما يعيه الفرد بصورة غير محددة هو وجود حكومة مركزية دون أن تتأثر حياته اليومية بقراراتها و الأشخاص ذوي الثقافة السياسية المحدودة يميلون إلى الخلط بين النظام و الدولة ، كما أنهم يعجزون عن التمييز بين الحزب الحاكم و هياكل الإدارة المدنية لذلك يسهل استغلالهم من طرف السلطات المحلية في عملية التعبئة لصالح النظام التسلطي و هذا ما حدث بالفعل إبان الحقبة الطائعية السوداء .
من جهة أخرى أدى ارتكاز الولاءات و الانتماءات السياسية على العلاقات العشائرية و القبلية إلى تفشي نمط الثقافة السياسية التابعة ( الرعوية ) حيث يرتبط المواطنون مع ثلة قليلة من السياسيين بعلاقات قائمة على التبعية و الولاء الشخصي و مستندة في جوهرها العميق على صلات القربى و العرف و الدين ، و قد قامت الأنظمة المتتالية باستغلال شبكات الراعي – الرعية من أجل عمليات الضبط و التطويع و أفردت حيزاً كبيراً في المشهد السياسي لأدوار قبلية مما أوجد المحنة الموريتانية الأولى : المجتمع الأهلي ضد المجتمع المدنيغير أن تداعيات التحديث السياسي المتمثل في الدمقرطة و التعددية سرعان ما أفرزت نمطاً ثالثاُ من الثقافة السياسية يسهم في جعل اتجاهات المواطنين إيجابية نحو الموضوعات السياسية و يعزز إيمانهم بالقدرة على المساهمة في العملية السياسية ، إنه نمط الثقافة السياسية المشاركة الذي يعزز البناء الديمقراطي في أي مجتمع من المجتمعات بشرط أن لا يتعدى حدوده المحمودة فإذا نشط جميع الناس سياسيا و بشكل مستمر فإنهم سيسوقون البلد حتما إلى شفير الهاوية .
إذا استثنينا المجتمعات المحلية المعزولة في أقاصي البلد و أولئك الذي لم يشفوا تماما من داء الأمية فإن سكان المدن الكبرى في موريتانيا و هم غالبية ساحقة ينشطون في السياسة بشكل مبالغ فيه ، و بالنظر إلى أن المواطن العادي لا يكسب عادة عيشه من السياسة مما يجعلنا نتوقع أن وقته المخصص لها سيكون محدودا و هو أمر ينطبق على كل الديمقراطيات العتيدة ، فإن ما يمارسه الناس في موريتانيا ليس السياسة بمعناها المتعارف عليه بل هي السياسة وفق تحديد جديد نختصره في الجملة التالية : " المشاركة في الشأن العام بمقتضى المصلحة الشخصية " و يجب أن ننوه هنا إلى أمر جوهري و هو أن هذه القضية لا ترجع فقط إلى غياب الأخلاق المدنية كما أن إرجاعها من قبل أغلب الباحثين إلى العداء التاريخي بين المجتمع و السلطة الاستعمارية هو أمر زائف و مغلوط فما كان الأمر ليختلف في ديمقراطيات عريقة لو أن اللعبة السياسية فيها تأسست على محاصصة قبلية مترافقة مع غياب للمحاسبة القانونية و الشعبية .
و في ظل الفساد المستشري لا يجد السياسيون الموريتانيون ما يمنعهم من ممارسة رياضتهم المفضلة : هدر و نهب المال العام ، و هنا نضع يدنا على المحنة الموريتانية الثانية : النظام ضد الدولة . لا تنبع المشكلة في موريتانيا من تعدد الثقافات السياسية فتصنيفات " جابريل ألموند " وضعت لضرورات تحليلية و من أجل عقد مقارنات عبر قومية بين الثقافات المختلفة و لا وجود لمجتمع واحدي الثقافة السياسية و إن كانت المجتمعات تتفاوت حسب غلبة نموذج معين على بقية النماذج الثقافية الأخرى مثلما تتفاوت في درجة التشوه الذي يصيب ثقافتها السياسية و كنا قد رأينا عيوب الثقافة السياسية المشاركة في موريتانيا و كيف أنها تقف عقبة كأداء في وجه البناء الديمقراطي على الرغم من تعارض ذلك مع نتائج الأبحاث التي تم التوصل إليها في مجتمعات أخرى .
تكمن الأزمة في وجود ثقافات سياسية متعارضة ، فالمواطنون منقسمون بحدة على بعضهم و غالباً ما يدور انقسامهم حول شرعية النظام و ماهية المشاكل الرئيسية و طريقة حلها . و حتى السياسيون الذين تفترض فيهم البراجماتية كثيراً ما يفشلون في تنسيق جهودهم نتيجة شدة التنافر و الاستقطاب بين الأحزاب على الرغم من تقارب برامجها ، و هذا عائد جزئياً إلى النزاعات الشخصية و عداوات الكار "المهنة " التي أوجدت تربة خصبة لإرساء " نظام حزبي متنازع " يتألف من أعداد متزايدة من الأحزاب المتباعدة في مواقفها من القضايا العامة و لا توجد بينها ثقة و متنافرة مع بعضها و مع النظام السياسي ، و هذا ما ولد التراشق الحالي في لعبة ( بونغ بونغ ) بين الحكومة الانتقالية و الأحزاب السياسية ، و على الرغم من أن هذه الأخيرة قد استشعرت خطر الترشيحات المستقلة منذ مدة فإنها لم تحرك ساكناً و تكفينا قراءة سريعة للوائح المترشحة للانتخابات البلدية للتدليل على صدق ذلك ، فمن بين 1264 لائحة لا يوجد أكثر من 25 إتلافاً ( انظر موقع الأخبار ) ،و هي نتيجة تنسجم تماما مع ميل الأحزاب الموريتانية إلى الصراع و التناحر عوض الحوار و المشاركة.
إن تاريخ الأحزاب السياسية في موريتانيا ليس سباقاً على درب المصلحة العامة أو تزاحماً بالأكتاف إلى سدة السلطة بل هو سعي جاد و حثيث للكل من أجل إقصاء الكل و في مسيرة العبث هذه يضعون موريتانيا في مواجهة محنتها الثالثة : المعارضة ضد المعارضة .
يضاف إلى غياب الحوار و المشاركة تجذر مفهوم " الشخصنة " في الثقافة السياسية الموريتانية فالنظام السياسي يعرف بوجوهه البارزة و الأحزاب تضاف إلى أسماء قادتها و في حالة تغير شاغلي الكراسي السياسية و الإدارية يبادر المعينون الجدد إلى الشطب و الإلغاء بدل الاستفادة من تجارب من سبقوهم و المراكمة عليها من أجل إرساء تقاليد مهنية بناءة ، و الواقع أنه يصعب الكلام عن تنمية حقيقية في بلد لا يؤمن مواطنوه بالمنطق المؤسساتي و سيكون من المبكر جدا الحديث عن ثقافة سياسية جديدة تشكل رافعة للتحديث السياسي في ظل تقاعس الهيئات المعنية من أسرة و مدرسة إلى إعلام و أحزاب سياسية عن وضع أسس تنشئة سياسية جديدة تتناسب مع التطورات الجارية على الصعد الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية .

ليست هناك تعليقات: