في بداية هذا الحديث لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر والامتنان إلى القائمين على غرفة الحوار الالكتروني "المشهد الموريتاني" وأخص بالذكر الأستاذ الفاضل محمد عبد الله ولد إسلم على إتاحة هذا المنبر لنقاش وتدارس الأوضاع الموريتانية، وقبل أن أدخل في صلب الموضوع لأقدم لكم لمحة سريعة عن مبادرة الشباب الموريتاني للحوار والبناء، دعوني، أولاً، أعبر لكم عن مدى فخري واعتزازي بأن أكون طرفاً في حوار شبابي يبحث هموم الوطن وأن أجلس في حلقة تضم شباباً آخرين من خارج مبادرتنا، هم من جيلنا لكنهم منتظمون في حزب التكتل، وإنها لفرصة لا تعوض أن نفهم منهم، اليوم، سر صبرهم وتفاؤلهم بالطبقة السياسية الموريتانية من الأجيال المخضرمة، ونعرف منهم أكثر من ذلك أسباب الثقة التي مازال الشباب الموريتانيون يضعونها في الأحزاب السياسية كوسيلة تغيير مجتمعية يمكن أن تخدم الوطن في المرحلة الراهنة.
ولعلنا نتفق جميعا على ضرورة إصلاح الثقافة السياسية الموريتانية المنحرفة والقائمة على أسس من الأنانية والبراغماتية واللامبالاة واللامسؤولية، فالكل أصبح، اليوم يرفع شعار: أنا ومن بعدي الطوفان ولا أحد يلتفت إلى الهاوية التي ننحدر إليها، أما من رحم ربك فيحاول جاهداً الوصول إلى السلطة كي يقوم بعملية التغيير "من فوق" وبعصا سحرية....يعتقد أن القرارات والمواعظ والنيات الحسنة تكفي وحدها ، لكن هيهات. وفي سعيه إلى السلطة يحاول الاستفادة من فساد المجتمع ويذكي نار القبلية السياسية والجهوية البغيضة.
إن سعي الأحزاب من أجل الوصول إلى السلطة أمر مشروع ولعلها وجدت أصلاً من أجل ذلك، كما أن الطموح الشخصي في عالم السياسة مقبول ومفهوم، أما أن يقدم التعطش للسلطة والطموح الجامح على تدارك وإنقاذ مجتمع يتحلل ووطن ينهار فتلك مسألة يجب التوقف عندها، ولأن الأمر لم يعد يحتمل التأجيل، ولأن الصمت يصبح أشبه ما يكون بالخيانة، قمنا في مبادرة الشباب الموريتاني للحوار والبناء بوضع نقطة النهاية وكتابة سطر جديد هو الأول لكنه ليس الأخير فأجيال وأجيال سوف تضيف إليه بحبرها الخاص وفي النهاية لابد أن يستقيم الخط ، ذلك الخط.
لقد رأينا كيف قامت الأحزاب السياسية غداة تغيير الثالث من أغشت بتركيز جهودها على تقاسم تركة الحزب الجمهوري وكان صراعها من الضراوة بحيث أنساها واجبها الوطني تجاه بلد دخل لتوه مرحلة انتقالية حساسة. لقد ترك السياسيون مصيرنا ومصيرهم لتقدير القادة العسكريين، ولكم أن تدركوا أي أفق أشرعوا عليه مستقبلنا.
إن الأحزاب السياسية التي طالما شاكست دون جدوى النظام البائد وقاطعت الانتخابات أكثر من مرة لضرب شرعيته فوتت ببساطة فرصة سانحة للضغط والتلويح بمقاطعة استحقاقات المرحلة الانتقالية من أجل انتزاع مكاسب لها وللوطن من الحكام الجدد الذين كانوا يرزحون وقتها تحت ضغوط إقليمية ودولية هائلة.
في الأيام التشاورية تم سوقهم فرادى، فلم نسمع ورقة مشتركة مع أن مصلحتهم تستدعي ذلك، وكانت مطالبهم قنوعة واكتفوا بالقليل، أما تطلعاتهم وراؤهم فلم تتخط حاجز السنتين، موعد الانتخابات الرئاسية.
الاعتراض الوحيد المسجل في المرحلة الانتقالية من أحزابنا العتيدة حول اللجنة الوطنية للانتخابات، جاء شكلياً واقتصر على الأشخاص، أشخاص بعينهم، لا على تفاصيل قرار تشكيل اللجنة أو صلاحياتها أو آليات عملها فذاك أمر مؤسسي قد يربك الأجيال القادمة، أما ما يهم الآن فهو الوصول إلى السلطة.
ومن بين أحزابنا التي تربو على الثلاثين قام حزب واحد بالتصدي للأوضاع الراهنة وانتقاد أداء الحكومة الانتقالية في مناسبة أو اثنتين أما بقية الأحزاب فقد جانبت الصواب واختارت كسب ود العسكريين ولعلها أرادت بذلك الحصول على دعمهم في الاستحقاقات الانتخابية القادمة.
في خضم هذا الواقع المأزوم تبلورت فكرة مبادرة الشباب الموريتاني للحوار والبناء كردة فعل على الإخفاقات المزمنة لسياسيينا، وكفعل هادف للإصلاح المجتمعي والبناء المؤسساتي لدولتنا الفتية، ولأن الأحزاب السياسية لم تقدم تحليلاً يسبر الواقع ولم تطرح رؤية تستشرف المستقبل أردنا في مبادرة الشباب تحمل المسؤوليات التاريخية ولبينا نداء الواجب الوطني.
إن ما تحتاجه موريتانيا في المرحلة الراهنة، وفق تصورنا، هو إعادة تأهيل بنيوي للثقافة السياسية السائدة وتنقية القيم المجتمعية من رواسب وشوائب الحقبة الطائعية السوداء تمهيداً لتأسيس أخلاق مدنية قائمة على علاقات موضوعية يضبطها القانون مع إرساء عقد اجتماعي جديد ينظم علاقة الحكام بالمحكومين على أسس دستورية تحل مشكلة المشروعية .
إننا نؤسس لقيام ثورة مجتمعية تغييرية تعصف بالفساد وتطيح بأركانه، ثورة تنبع من النخب والقوى الشابة والفئات ذات المصلحة في التغيير، ثورة تحمل معها حراكاً اجتماعياً وسياسياً جديداً، ومن هنا يبرز جلياً تفرد الحلول التي نطرحها عن تلك التي تقدمها الأحزاب السياسية فإذا كانت هذه الأخيرة تتعامل مع المواطنين كناخبين يقترعون في يوم محدد كي يوصلوها إلى السلطة فإننا على خلاف ذلك نبني علاقة تشارك مع المواطنين كي يؤازرونا يداً بيد من أجل الحوار والبناء، ونحن، ببساطة شديدة، نؤمن بالتغيير النابع من القاعدة الشعبية أكثر من ذلك الصادر من قمة الهرم السلطوي على شكل قرارات تبقى حبراً على ورق، والأولوية لدينا هي لتغيير النفوس قبل النصوص ونهجنا المتبع هو الإخلاص في العمل وتقديم القدوة بدل الاكتفاء بإلقاء الدروس.
سيتركز عملنا في الفترة القادمة، على الخدمة المباشرة للمجتمع والوطن بدل السعي نحو تحقيق مكاسب سياسية هزيلة، ولأن هدفنا نبيل ويلقى صدى حقيقي وعميق لدى الموريتانيين الغيورين على مستقبل بلادهم فستلتحق بنا أعداد كبيرة من المخلصين الذين لن يقفوا محايدين إزاء مصلحة موريتانيا وسيقولون، دون شك، كلمتهم في الاستحقاقات الانتخابية القادمة.
إن الهدف المحوري لكل البرامج السياسية هو دون شك تحقيق التنمية بمفهومها العام وكثيراً ما تصاغ هذه البرامج بمثالية لأنها خدع كاذبة تسعى للإرضاء المؤقت كما الوعود الانتخابية، والسياسي الموريتاني إذا اجتاز اختبار تذكر بعض فقرات برنامجه الحزبي فإنه يتعثر ويفشل دوماً في ما هو جوهري من قبيل تحديد بعض المفاهيم التأسيسية للتخطيط السياسي البعيد المدى، فهو لا يملك رؤية واضحة لمفهوم المصلحة الوطنية لذلك يعجز بالنتيجة عن صياغة إطار محدد لمفهوم الأمن القومي الموريتاني بمعناه الواسع.
تظهر القراءة المتأنية والناقدة لبرامج الأحزاب السياسية الموريتانية اجتزاءها للحلول فهذه البرامج لا ترصد الروابط والعلائق الخفية بين أبعاد التنمية وتقدم خططاً متنافرة لكل من الصحة والتعليم والزراعة والإصلاح الاجتماعي الخ، وهي تتأسس على مفهوم التنمية الشاملة الذي أصبح متجاوزاً واستبدل حديثاً بمفهوم التنمية المستدامة التي تعني تنمية الناس بواسطة الناس ومن أجل الناس، فلم يعد مقبولاً اليوم استهلاك الاحتياطيات دفعة واحدة وتوزيعها على القطاعات الخدمية من أجل تحقيق تنمية شاملة لا تراعي متطلبات التنمية المستدامة.
يسعى برنامج المبادرة التنموي إلى الاستفادة من هذه المفاهيم وتطبيقها على الواقع الموريتاني ويريد توظيف الثروات غير المتجددة من أجل استحداث ثروات باقية ومستدامة تسهم في وضع أسس مجتمع المعرفة وذلك بالتركيز على الرفع من سوية التعليم والبحث العلمي، وصدقوني عندما نصل إلى المستوى العلمي والمعرفي لدول بدأت نهضتها مأخرا فسنحصل على الباقي علاوة.
أصل الآن، إلى النقطة الأخيرة في حديثي هذا، وهي عن الديمقراطية كمحتوى لا كآلية وسأركز على مفهوم معين لأهميته القصوى ألا وهو مفهوم المساواة الذي طرأ عليه الكثير من التحسينات المستخلصة من الخبرات التاريخية لأمم عديدة، فبعد فشل التجارب الاشتراكية في تحقيق المساواة الفعلية والتي قيل إنها كانت مساواة في الفقر وجد أيضاً أن المساواة القانونية في الأنظمة الليبرالية ناقصة وعرجاء في ظل التفاوت الذي جرته ممارسات تاريخية على بعض الفئات والشرائح الاجتماعية، لذلك بدأ الكلام حديثاً عن فكرة "التضمينية" التي تعني تضمين مفهوم المساواة بعداً جديداً يدعى "التمكين" ولأضرب مثالاً على ذلك بوضعية المرأة حتى لا أسوق أمثلة أخرى، فلا يكفي فقط فتح باب المساواة القانونية بين الرجل والمرأة دون أن نمكن المرأة أي أن نميزها إيجابياً حتى تستطيع التغلب على رواسب الظلم التاريخي الذي لحق بها.
وأخيراً، وقبل أن أحيل إليكم الميكروفون، دعوني، إخوتي أخواتي، أقدم لكم تعريفي الخاص لمبادرة الشباب الموريتاني للحوار والبناء والتي أجدها رابطة مدنية تعنى بشؤون التنمية السياسية والتأهيل السياسي من أجل مشاركة عريضة لشرائح واسعة من المجتمع الموريتاني في الشأن العام والمساهمة في عملية البناء الوطني.
............................................................
* ورقة قدمت لندوة الحوار في الغرفة الصوتية للمشهد الموريتاني على البالتوك
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق