إلى قديسي موريتانيا الحقيقيين..إلى أساتذة , أعرفهم , صمدوا في التعليم بعد عامهم الأول
لم يحظ التعليم باهتمام الرأي العام الموريتاني إلا في السنوات القليلة الماضية مع أن ناقوس الخطر كان قد دق منذ زمن بعيد. و ها نحن اليوم ندفع ثمن سمعنا الثقيل بعد أن أصبحت وضعية التعليم إشكالية و مأزقا يصعب الخروج منه, ذلك أن جل أساتذة و معلمي اليوم هم في حقيقة الأمر تلاميذ الأمس القريب , مما يعني أنهم تلقوا تعليمهم في حقبة ولد الطايع السوداء , و الأخطر منذلك دون شك هو أن إختيارهم قد تم وفق معايير ذاك الزمان.إن ضعف التلميذ راجع إلى فشل الأستاذ , و فشل الأستاذ عائد إلى ضعف التلميذ الذي كانه..! ليس في الأمر سفسطة إنما الحال , هنا , أشبه بحلقة أصبحت مفرغة بعد أن لحم طرفاها , و لكي نهتدي إلى مكان اللحام ( المخرج ) لسنا بحاجة إلى " خيط أريانة " بل كل ما علينا القيام به هو تكليف أنفسنا عناء الالتفات قليلا إلى الوراء حيث الإشارة الدالة على طريق فهم ماهية الأزمة كي نتدبر وسائل الخروج منها.ترافقت "ثورة" الانتشار الأفقي للتعليم في بداية التسعينات مع نهاية النظام الاحترافي التخصصي لمدرسة الأساتذة العليا الرافد الأساسي لسلك التعليم فابتسم الحظ لخريجي جامعة انواكشوط الذين تم تأهيلهم للانخراط في قطاعات أخرى.كانت البطالة تضرب أطنابها الثقيلة على البلاد و في بحر اللجة المتلاطم يصبح التعلق بقشة باعثا على الأمل , فشقوا دربهم متزاحمين بالأكتاف إلى مدرسة الأساتذة العليا رغم الاحراجات المستقبلية من وضع ما تعلموه على محك التجربة التدريسية..ما تعلموه و تلقوه من أساتذة اكملوا على عجل تعليمهم في معاهد غير معترف بها دوليا بعد أن اختاروا الطريق السهل لشغل كرسي أكاديمي في جامعة أعلن رئيسها مؤخرا على شاشة التلفزيون , دون أن يرف له جفن , أنها تعتمد تقدير البكالوريا كمعيار أساسي في اكتتاب أساتذتها و كان الصحفي المحاور دمثا فلم يسأله , مثلا , لماذا لا تعتمدون تقدير شهادة الدروس الإعدادية أو شهادة ختم الدروس الابتدائية ؟!. يمكننا أن نضيف إلى ذلك ملاحظة تشهيرية تتمثل في التنبيه إلى الاستثناء الموريتاني بين الأمم من حيث أن من يسعى , عادة , من طلابنا لاكمال دراساته العليا هم , في الأغلب , من غير اللامعين!ككل المؤسسات الموريتانية في تلك الفترة أصبحت إدارة مدرسة الأساتذة العليا بعد عزل مديرتها الأسطورية مدام با منصبا مخصصا ريعه لارضاء الأزلام. و منذ ذلك الحين أضحت شطحات مديريها الفنتازية أقرب إلى أفلام هتشكوك منها الى التبصرات الرصينة للأكاديمي المرموق أو الرؤية التخطيطية الثاقبة للإداري الناجح , و كانت تنويعات مسرح الهواة التجريبي ذاك مدهشة فشهدنا اكتتاب خريجي قسم القانون لتدريس اللغة العربية أو التاريخ و خريجي قسم الاقتصاد لتدريس مادتي الرياضيات و الفيزياء. و لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فأسندوا للأستاذ الواحد ثلاث مواد في توليفة مضحكة بعد استحداثهم لشعب ثلاثية كشعبة التربية المدنية و اللغة العربية و التربية السلامية و شعبة الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء و شعبة اللغة العربية و الفلسفة و التربية المدنية.اعتمدت المدرسة نظامين أساسيين قي التكوين : أحدهما سريع لا تتجاوز مدته 45 يوما و الآخر طويل تصل مدته إلى السنتين دون أن تضع معايير تفضيلية لخريجي التكوينين في أسلوب ارتجالي جر أيضا مفارقات غير مفهومة كاكتتاب أساتذة فلسفة مساعدين!أدى تدهور سعر صرف الأوقية في التسعينات إلى انهيار دراماتيكي للطبقة الوسطى تمثل في تراجع القدرة الشرائية لأعداد متزايدة من الموظفين و سقوط مدو لمنظومة قيم امحى حاملها الاجتماعي من الوجود.و قد شكل قطاع التعليم الحر الناشئ وقتئذ اسفنجة ماصة لأساتذة مصعوقين من تبدل أحوالهم الاجتماعية و ما فاض منهم جرفه , بعيدا و دون رحمة , تيار الحياة الجديدة فتفرقوا أيادي سبأ.اغتنم النظام البائد فرصة رفع التقييد جزئيا عن نفقات التعليم من قبل مؤسسات بروتن وودز فطفق يوزع المدارس على مختلف المجموعات المحلية و في حمى هوسه التعبوي وجد ضالته المنشودة في نسب التمدرس العالية التي تلقفتها أجهزته الإعلامية في دعاية رخيصة أغفلت سقوط نظرية أخرى لكارل ماركس : فالتحولات الكمية لم تؤد إلى تغيرات نوعية!في زمن الفساد و الإفساد عصفت بموضوع الإصلاح الإداري للتعليم زوبعة من الأهواء و التحيزات الشخصية فجادت القرائح بالعجب العجاب و كشر الرسميون عن رؤاهم "الإصلاحية" فهذا وزير يختزل مفهوم الاستقامة و الإصلاح في منع التحويل من الولايات إلى انواكشوط و يصيب بذلك سمعة و ذكرا , و ذاك آخر يشهر قلم الشطب و الفصل منصبا "محكمته الخاصة" دون أن ينظر في قضايا إنفاق ميزانيات المؤسسات التعليمية بدعوى "عدم الاختصاص"..ربما!أما الإصلاح التربوي القائم على الازدواجية اللغوية بحيث تدرس المواد العلمية باللغة الفرنسية فيما تقدم المواد الأخرى باللغة العربية فلم يعد خافيا على أحد إلى أين سيقودنا, و آباء التلاميذ , بوجه خاص , الذين آثروا الصمت في زمن الخوف على أمل أن يتقن أبناؤهم لغة أجنبية , يدركون اليوم أكثر من غيرهم فداحة الثمن المدفوع:فبلادهم لن تعرف , على الأرجح , في العقود المقبلة رجالا بارعين في الميادين التي تتطلب استخداما فنيا للغة.ترتكز الفكرة الأساسية لمنهج مقاربة الكفايات على قاعدة براغماتية تسعى إلى استخلاص الجانب العملي و السطحي للأفكار و المعلومات , و دفع التلميذ إلى توظيفها في حياته اليومية , و هي بذلك تخلط بشكل تعسفي بين المؤسسة التعليمية كحيز مؤطر و بين الحياة كفضاء عام , و يمكن القول أيضا مع قليل من التجاوز إن مقاربة الكفايات تكاد تطابق بشكل مخل بين التعليم الأكاديمي و التعليم المهني و الفني.تلحظ الثقافة الغربية هوة ما بين الفكر و الواقع, و من يقرأ "كانديد" لفولتير و "دون كيشوت" لسرفانتس يستخلص بسهولة مدى الضرر المهلك الذي قد ينجم عن محاولة التطبيق الحرفي للفكر على الواقع ذلك أن للفكر جانبا معنويا و جماليا نسمو به ذاتيا و آخر موضوعي نسيطر به على الواقع لكن تخيلوا شخصا يغفل "الوسط المكسور" بين القطبين ( فكر- واقع ) و بعد أن يقرأ كل الروايات البطولية يخرج ليبارز طواحين الهواء ! ..تلكم كانت "الكفاية" التي اختارها دون كيشوت.إذا سلمنا أن منهج مقاربة الكفايات مفيد عمليا لمن يترك الدراسة في مراحلها الأولى فهو , دون شك , ضار و هدام للقدرات العقلية و التخيلية لمن يريد من تلاميذنا مواصلة دروب العلم الشاقة . و هنا يحسن بنا التوقف قليلا أمام الحقيقة الإحصائية المرة و التي تؤكد تفوق من تلقوا تعليما محظريا على أقرانهم في المدرسة و الحياة العملية لنتساءل : هل كل ما قيل لنا سابقا عن سلبيات التلقين و تكديس المعلومات هو محض هراء؟لكي تتدارك هفوات "الإصلاح" و تدني المستوى التعليمي لم يبق أمام الدولة من خيار سوى التبني العملي لفكرة المدارس النموذجية أو ما يمكن أن نطلق عليه مدارس المتفوقين لتخريج نخب الغد و فصلها عن المدارس الأخرى ثم إسناد مهمة التدريس فيها لأساتذة متخصصين بدل أن يعهد فيها بتدريس مادة مثل اللغة العربية لأستاذ يحمل إجازة في العلوم السياسية!يجب على مسؤولي التعليم أيضا أن يعيدوا النظر مجددا في الأوضاع المادية المزرية لمدرسي التعليم الثانوي و الأساسي , و أن يبحثوا عن سبل جديدة تجعل من فعل التعليم مهنة ممتعة و مسؤولة . صحيح أنهم رفعوا الراتب فأصبح يزيد قليلا على جائزة "أحجية اليوم" لكن عليهم أن يخبرونا , أولا , كم من أحجية مفيدة و ممتعة يشرحها المدرس يوميا لتلاميذه المحبطين , و كم سنخسر من وقت و جهد ثمينين لو أن المدرسين قرروا دون سابق إنذار رفع شعار: يا أساتذة موريتانيا اتحدوا..--------------------تنبيه من الكاتب: إن التعميمات السلبية الواردة في هذا المقال تفترض , أيضا , وجود استثناءات مشرقة , ولا تهدف قطعا إلى الإساءة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق